العناوين تأخذُك هيبتُها، وتصادرُ قدرتَك على التعبير فيها، لا لأنها صعبةُ المعنى في ذاتها، ولكنْ لتداخلِها العجيبِ مع غيرها من العناوين.. والموهبةُ خيرُ دليلٍ على ذلك، فليس من السهلِ حتى على كثيرٍ من المختصين, أن يُقنعوا غيرَهم بالفروقات الحاسمةِ بين الموهبة والعبقرية والإبداع والابتكار والذكاء والتفوق والتميز والتفرّد.. وكثيرٍ من العناوين التي تحملُ طيَّها وشائجَ قُربى في المُؤدَّى، وصلاتِ روحٍ في المعنى، حتى لو اتفق الجميعُ على أن الموهبةَ قدرةٌ استثنائيةٌ غيرُ عادية.ٍ
لقد أثبتت الوقائعُ أنه لا بريق خاص بالموهبة يدلُّ عليها، بل قد لا يُصدِّقُ -أحد- أيُّ أحد أو يتصورُ أنَّ فلانًا من الناس موهوب بينما هو واقعٌ تصنيفًا في قوائم ذوي الاحتياجات الخاصة، لكنه يدخلُ عالَمَ الموهبة من أوسعِ أبوابها.. باعتبار أن المواهبَ قد توجد بين ذوي الحاجات الخاصة.
لقد لاحظتُ وبحكم اتصالي الميداني أن عددَ الآباءِ والأمهات الذين يزعمون أن أبناءَهم موهوبون، قد تزايد مؤخرًا، وأن هذه الزيادةَ في اطراد، وربما كان لتضخّم الدرجات الصفية، الذي اعترى بعضَ أنظمتِنا التعليمية دورٌ في ذلك.. فالدرجاتُ العاليةُ في الاختبارات اختلطتْ زُورًا بمفهومٍ الموهبة،
وقد حاولتُ ولمدة - طويلة من موقعي التربوي فكَّ هذا التداخلِ الخاطئ، غير أنني لم أُفلحْ، بل ازدادَ الأمرُ لديّ اشتباهًا،
حين بدأتُ أنا نفسي أشعرُ بأن حفيدي الأول خالدًا هو موهوبٌ بلا شك!! وحين تذكرتُ أمرَ أولياءِ الأمور الذين يرون الموهبة في أبنائِهم، سارعتُ كي لا أُزوّرَ معنى الموهبة إلى البحثِ عن سماتِ الموهوبين بإمعان، ورجعتُ إلى كثير من المصادر التي اتفقتْ فيما بينَها على أن الموهوبين هم بطبيعتهم مختلفون عن أندادِهم العاديين في المدرسة. فهم يمتلكون شخصياتٍ متفردةً إيجابيًا، ويتسمون بسماتٍ نفسيةٍ خاصة، وأنماطٍ حياتية مختلفة، ولهم سلبياتُهم العاطفيةُ والسلوكية.
فهم على سبيل المثال يَبدونَ في مزاجٍ تأملي هادئ، وهم مفكرون مبدعون،يملكون مهاراتِ التفكير العليا، مثلما هم متعلمون مستقلون، سريعو الفهم والتعلم، فضوليون، حلاّلو مشكلات.. وفي المقابل هم حسّاسون جدًا، نافذو الصبر، من السهل إزعاجُهم واستفزازُهم، وهم مندفعون قلقون منعزلون اجتماعيًا في بعض الأحيان، وربما هم خجولون ومكتئبون.
كي ندخلَ عالمَ المنافسةِ بِخطًى متساوية، وفي مضمارٍ واحد مع العالم من حولنا، لا بدَّ لشبابنا، ومنذُ نعومةِ أحلامِهم، أن يسيروا في طريق التميز، في ظلِّ وعيٍ تامٍّ بأن عمليةَ التعلّمِ هي تراكميةٌ بطبعها، وأن تطورَ الطلبة، بمن فيهم الموهوبون، إلى كامل قدراتِهم وإمكاناتهم، لا يكونُ إلا بتحديد جوانبِ القوةِ الخاصةِ بهم طوالَ مسيرتِهم الحياتية.
ولكي يتحققَ هذا الهدف، علينا أن نبحثَ عن مساعدةِ المجتمعِ كله، علمائِه وعمالِه وحِرَفيّيه؛ صانعي السيارات والمربّين ورجالِ الأعمال والمنظماتِ المدنية والآباءِ والأمهات..
هؤلاء جميعًا يستطيعون لعبَ أدوارٍ مهمةٍ لتحسين التعليمِ لأكثرِ طلبتِنا موهبة. ولأن كثيرًا من القيم يتم تعلُّمُها في المنزل، فإنه من المهم جدًا، وبخاصةٍ لآباءِ وأمهاتِ الأطفال الموهوبين، أن يعملوا عن قُربٍ مع المدارس، وأن يزرعوا في نفوسِ أبنائِهم الرغبةَ في التفوق، وأن يتحدثوا بفخرٍ عن مواهبِ أطفالهم أمامَهم.
وعلى العكس من ذلك، فإن إهمالَ الأسرةِ لطفلِها الموهوب، وعدمَ الاكتراثِ بموهبته، سيؤدي لا محالةَ إلى ضياعِه، واستسلامِه للفشل واللامبالاة في الدراسة، يدفعُهُ إلى ذلك شعورُه الداخلي بأنه لا أحد ممن حولَهُ يفهمُه.
د . علي القرني
مدبر مكتب التربية العربي لدول الخليج - الرياض
0 التعليقات:
إرسال تعليق